فصل: تفسير الآيات (50- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآيات (50- 51):

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}
أخبر- سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصَّى عليه مقدورٌ لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقُدْرَتُه عامَّةُ التعلق: فلا المشقة تجوز في صفته ولا الرفاهية. فالخلْقُ الأول والإعادة عليه سِيَّان؛ لا مِنْ هذا عائدٌ إليه ولا من ذاك، لأن قِدَمَه يمنع تأثير الحدوث فيه.

.تفسير الآية رقم (52):

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}
يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبدُ على النعمة والآية تدل على أنهم- وهم في قبورهم- في نعمته.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}
القولُ الحسنُ ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحَسَنِ، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركُه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المُحِبَّ بعبودية محبوبه.
ويقال أحسنُ قولٍ من المذنبين الإقرارُ بالجُرْم، وأحسنُ قولٍ من العارفين الإقرارُ بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم: «سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك».

.تفسير الآيات (54- 55):

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}
قوله جلّ ذكره: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ وََكِيلاً}.
سَدَّ على كلِّ أحدٍ طريقَ معرفته بنفسه ليتعلَّق كُلُّ قلبه بربه. وجَعَلَ العواقبَ على أربابها مشتبهةً، فقال: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} ثم قدَّمَ حديثَ الرحمةِ على حديث العذاب، فقال: {إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} وفي ذلك تَرَجِّ للأمل أَنْ يَقْوى.
ويوصف العبدُ بالعلم ويوصف الربُّ بالعلم، ولكن العبدَ يعلم ظاهرَ حاله، وعِلْمُ الرب يكون بحاله وبمآله ولهذا فالواجب على العبد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وهذا معنى: {إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بعد قوله: {أَعْلَمُ بِكُمْ}.
قوله جلّ ذكره: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}.
فَضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضِ في النبوةِ والدرجة، وفي الرسالة واللطائف والخصائص. وجعل نبيَّنا- صلى الله عليه وسلم- أَفضلهم؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بَدْرٌ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموسٌ وهو شمسُ الشموس.

.تفسير الآية رقم (56):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}
استعينوا فيما يستقبلكم بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادةُ شيءٍ من دون الله، ولا يضركم تَرْكُ ذلك، ولقد قيل في الخبر: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

.تفسير الآية رقم (57):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}
يعني الذين يعبدونهم ويدعونهم- كالمسيح وعُزَيز والملائكة- لا يملكون نَفْعَاً لأنفسهم ولا ضَرَّاً، وهم يطلبون الوسيلةَ إلى الله أيْ يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاءَ إحسانَ الله، وطمعاً في رحمته، ويخافون العذاب من الله....فكيف يرفعون عنكم البَلاءَ وهم يرجون الله ويخافونه في أحوال أنفسهم؟
ويقال في المَثَلِ: تعلُّقُ الخَلْقِ بالخَلْق تعلُّقُ مسجونٍ بمسجون.
ويقال: إذا انضمَّ الفقيرُ إلى الفقيرِ ازداد فاقةً.
ويقال إذا قاد الضريرُ ضريراً سقطا معاً في البئر، وفي معناه أنشدوا:
إذا التقى في حَدَبٍ واحدٍ ** سبعون أعمى بمقادير

وسَيَّروا بعضَهم قائداً ** فكُلُّهم يسقط في البير

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}
العذاب على أقسام: فالألم الذي يَرِدُ على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى مَا يَرِدُ على القلوب والسرائر؛ قعذابُ القلوبُ لأصحابِ الحقائقِ أَحَدُّ في الشِّدَّةِ مِما يُصيب أصحابَ الفقر والقلة.
ثم إن الحقَّ سبحانه أجرى سُنَّتَه بأن مَنْ وصلت منه إلى غيره راحةٌ انعكست الراحةُ إلى موصلها، وبخلاف ذلك مَنْ وصلت منه إلى غيره وَحْشَةٌ عادت الوحشةُ إلى موصلها. ومَنْ سام الناس ظُلْماً وخَسْفَاً فَبِقَدْرِ ظُلْمِه يَعذِّبُه اللَّهُ- سبحانه وتعالى- في الوقت بتنغيص العَيْشِ، واستيلاءِ الغضب مِنْ كلِّ أحدٍ عليه، وتَتَرَجَّمُ ظنونُه وتتقسَّمُ أفكاره في أحواله وأشغاله، ولو ذاق من راحة الفراغ حلاوة الخلوة شظية لَعَلِمَ ما طعم الحياة.. ولكنْ حُرِموا النِّعَم، وما علموا ما مُنُوا به من النِّقَم.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)}
قوله جلّ ذكره: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأَيَاتِ إِلاَّ أَن كّذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}.
أجرى الله سُنَّتَه أنه إذا أظهر آية اقْتَرَحَتْها أُمَّةٌ من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أَنْ يُعَجِّلَ لها العقوبة، وكان المعلومُ والمحكومُ به ألا يجتاحَ العذابُ القومَ الذين كانوا في وقت الرسول- عليه السلام- لأَجْلِ مَنْ في أصلابهم مِنَ الذين عَلِمَ أنهم يؤمِنُون؛ فلذلك أَجَّرَ عنهم العذاب الذي تعجّلوه.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا نُرْسِلُ بِالأَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً}.
التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله؛ فإنْ لم يخافوا وَقَعَ عليهم العذاب ثم إنه عَلِمَ أنه لا يفوته شيءٌ بتأخير العقوبة عنهم فَأَخَّر العذابَ. وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حُكْمِه وعِلْمه.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}
الإيمانُ بما خَصَصْنَاكَ به امتحان لهم وتكليفٌ، ليتميزَ الصادقُ من المنافقِ، والمؤمنُ من الجاحد؛ فالذين تَدَارَكَتْهُم الحمايةُ وقفوا وثبتوا، وصَدَّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خَامَر الشكُّ قلوبهم، ولم تباشِرْ خلاصةُ التوحيد أسرارَهم، فما إزدادوا بما امتُحِنُوا به إلا تحيُّراً وضلالاً وَتَبَلُّداً.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}
امتنع الشقيُّ وقال: لا أسجد لغيرك بوجهٍ سَجَدْتُ لَكَ به، وكان ذلك جهلاً منه، ولو كان بالله عارفاً لكان لأمره مؤثِراً، ولمحيط نفسه تاركاً.

.تفسير الآية رقم (62):

{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)}
لو علقت به ذرَّةٌ من المعرفة والتوحيد لم يحطب على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنَّه أقامه الحقُّ بذلك المقام، وأنطقه بماهو لقلوبِ أهلِ التحقيق مُتَّضِح.

.تفسير الآيات (63- 64):

{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)}
هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويتٍ، ولو أَخرَّ عقوبةَ قومٍ فإن ذلك إمهالُ لا إهمال، ومكرٌ واستدراجٌ لا إنعامٌ وإكرامٌ.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصًوْتِكَ}: أي افعل ما أمكنكَ، فلا تأثيرَ لفعلك في أحد، فإنَّ المنشئَ والمُبْدِعَ هو الله.. وهذا غاية التهديد.

.تفسير الآية رقم (65):

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}
السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده.
ويقال السلطان هو التَّسَلُّط، وليس لإبليس على أحدٍ تسلط؛ إذ المقدور بالقدرة ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير في أحد، وعلى هذا أيضاً فالآية للعموم.
ويقال أراد بقوله: {عِبَادِى} الخواصَ من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قِبَلَ الله، فإن وساوسَ الشيطان لا تضرُّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قَرُبَ من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم.
ويقال إنّ فرار الشيطان من المؤمنين أشدُّ من فرار المؤمنين من الشيطان.
والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره، وأَمَّا مَنْ استعبده هواه. واستمكنت منه الأطماع، واستَرقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه... وفي الخبر «تَعِسَ عبد الدرهم تعس عبد الدينار». ويقال في {عِبَادِى} هم المُتَفَيِّئُون في ظلال عنايته، المُتَبَرُّون عن حَوْلهِم وقُوَّتِهم، المتفرِّدُون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلُّق به.

.تفسير الآية رقم (66):

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)}
تعرَّف إلى عباده بخَلْقِه وإنعامه، فما من حادثٍ من عينٍ أو أثرٍ أو طَلَلٍ أو غََبَرٍ إلا وهو شاهِدٌ على وحدانيته، دالٌّ على ربوبيته.

.تفسير الآية رقم (67):

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)}
وجُبِلَ الإنسانُ على أنه إذا أصابته نقمةٌ، أو مَسَّتْه محنة فَزْعَ إلى الله لاستدفاعها، وقد يُعْتَقَدُ أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال اللَّهُ تلك النقمة وكَشَفَ تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا في ضُرِّ مَسَّهم، وفي معناه أنشدوا:
فكم قد جهلتم ثم عُدْنا بِحِلْمِنا ** أحباءَنا كم تجهلون! وَتَحْلمُ!

.تفسير الآيات (68- 69):

{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}
الخوفُ ترقُّبُ العقوبات مع مجاري الأنفاس- كذلك قال الشيوخ. وأعرفُهم بالله أخوفُهم من الله. وصنوفُ العذابِ كثيرة؛ فكم من مسرورٍ أَوَّل ليْلهِ أصبح في شِدَّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النِّعم! وفي معناه قالوا: إِن من خاف البيان لا يأخذه السُّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا:
مستوفزون على رِجْلٍ كأنهمو ** يريدون أن يمضوا ويرتحلوا

.تفسير الآية رقم (70):

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
المراد من قوله: {بَنِى ءَادَمَ} هنا المؤمنون لأنه قال في صفة الكفار: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِّن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18] والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حَرَمَ الكافرَ الإكرامَ..... فمتى يكون له التكريم؟
ويقال إنما قال: {كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد توضيحاً بأن التكريم لا يكون مقابلَ فِعْلِ، أو مُعَلَّلاً بِعِلةٍ، أو مُسَبّباً باستحقاقٍ يوجب ذلك التكريم.
ومن التكريم أ، هم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة.
ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خَاطَبَه، وإذا أراد أن يسأل شيئاً سأله.
ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جُرْمُه ثم توبته يضاعف له قبولَه التوبة وعفوَه.
ومن التكريم أنه إذا شَرَعَ في التوبة أَخَذَ بيده، وإذا قال: لا أعود- يقبل قولَه وإِنْ عَلِمَ أنه ينقض توبته.
ومن التكريم أنه زَيَّنَ ظاهرَهم بتوفيق المجاهدة، وحَسَّنَ باطنَهم بتحقيق المشاهدة.
ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا في الأثر: «أعطيكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني».
ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن.
وكما خَصّ بني آدم بالتكريم خصَّ أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] و{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165].
ومن التكريم قوله: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء: 110]
ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه.
ومن التكريم لقوم توفيقُ صِدْق القَدَم، ولقوم تحقيقُ علوِّ الهِمَم. قوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ في البَّرِ وَالبَحْرِ}: سَّخر البحر لهم حتى ركبوا في السفن، وسَّخر البرَّ لهم حتى قال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} [فصلت: 37].
ويقال محمولُ الكرامِ لا يقع، فإنْ وَقَعَ وَجَدَ مَنْ يأخذ بيده.
ويقال الإشارة في حملهم في البرِّ ما أوصل إليهم جهراً، والإشارة بحديث البحر. ما أفردهم به من لطائف الأحوال سِرَّا.
ويقال لمّا حَمَلَ بنو آدم الأمانة حملناهم في البر، فَحَمْلٌ هو جزاءُ حَمْلٍ، حَمْلٌ هو فِعْلُ مَنْ لم يكن وحَمْلٌ هو فَضْلُ من لم يَزَل.
قوله: {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِيَاتِ}: الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق؛ فَمَنْ لم يكن غائباً بقلبه ولا غافلاً عن ربَّه استطاب كُلَّ رزقٍ، وأنشدوا:
يا عاشقي إني سَعِدْتُ شراباً ** لو كان حتى علقماً أو صابا

قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلْقْنَا تَفْضِيلاً}: أي الذين فضلناهم على خلقِ كثير، وليس يريد أن قوماً بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلِّ مَنْ خَلَقْنا، وذلك التفضيل في الخِلْقة. ثم فَاضَلَ بين بني آدم في شيء آخر هو الخُلق الحسن، فَجَمَعهم في الخُلقة- التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومَايَزَ بينهم في الخُلق.
ويقال: {كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ}: هذا للفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قومٌ على الباقين، ففَضَّل أولياءَه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاقَ الولاية.
ويقال فضَّلهم بألاَّ ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار.